هل أدركت نعمة العقل!؟
إن حسبت أنك أدركتها ، وحمدتها وشكرتها ،وأرجو أن تكون كذلك ، لكني أدعونا لإعادة تقييم هذه النعمة ..
أتعرفون كلما ازدادت خبرتي في الحياة أجدني ظلمت نفسي وأناس أعرفهم أو لا اعرفهم بغير قصد ، وحقا هذا الشعور يؤلمني ، ويخفي خلفه نواقص في الخبرة الشخصية ، أرجو أن تكون الأيام القادمة كفيلة أن يكون لي فيها أفضل النصيب للاستكمال والخبرة مع سبق الاصرار والترصد للحصول عليه.
أكتب هذه الكلمات أثناء استراحة نأخذها يوميا لمدة نصف ساعة خلال دوامنا في مستشفى الأمراض العقلية أنا وبعض زميلاتي وزملائي من طلبة السنة الخامسة ، أدركت فيها كم هذا الانسان كفور ، أي والله كفور ..تعلم أن يأخذ أنعما لا تعد ولا تحصى ،ولم يتعلم الانصاف حتى في ذكرها ، وتعدى ذلك لايذائه من حرم منها....
فمنذ نعومة أظافري عرفت كما عرف المعظم أن المريض العقلي ((( مجنون))) منبوذ ، إن رأيته في الشارع لا أكتفي بالهروب لشارع اخر او مقابل ، بل احاول اثناء ذلك اختلاس النظر له دون أن يلمحني خوفا من أن يؤذيني!!! ولا بأس بقليل من الابتسامات وذكر ما رأيته لأهلي وأصدقائي كي نضحك قليلا !!..أجل نضحك على هذا الانسان الذي حرم هذه النعمة التي لا ندركها
وهكذا (((المجنون))) و (((مستشفى المجانين))) خفت من هذا الدوام، ومن التعرض لأي أذى ممن فيه ، في حين لا أظنني خفت من حيوان يمر قرب البيت كما كنت أخاف منهم ، سامحوني على هذا التعبير ، لكنه إن دل فإنما يدل على منهجنا في التفكير نحوهم!!!..ومن ناحية أخرى أحادث نفسي أن لا بأس بقليل من الفكاهة والترويح عن النفس في هذا الدوام ،خاصة أنك تحتاج دائما للجدية والاهتمام بالاماكن الأخرى ،،،، وهكذا جئت للدوام أول يوم وسط وصايا الأهل وقلقهم ،وكانت البداية في قسم الإدخال ،قلت لنفسي لن أضحك بداع الشفقة ، لكن لم أستطع أن أمنع نفسي بل شعرت بانبساط لأن منهم من يحدثك بأشياء لا ينسجها خيال خيالك.. وفي الوقت ذاته استرق النظر للطبيب المسؤول ، فأجد ملامح الجدية ، والرغبة القوية في لاستفادة من كل معلومة ، وتوجيه حديث المريض ، لاولا أجد روح الانبساط التي تتكلف ملامحنا لإخفائها ، وبعد عودتي من الدوام ،جلست مع نفسي في غرفتي ؛ أراجع أحداث يومي الأول في " مستشفى الامراض العقلية" وبدأت استشعر وأتخيل كيف تضرب هذه النعمة على أكثر الأوتار حساسية ؛ فنجن كرمنا الخالق العظيم عن سائر خلقه بهذا العقل ........ـ
رحل تفكيري كيف أننا نصغر يوما بعد يوم أمام عظمته سبحانه ، فهو أودع في هذا المريض كل المستلزمات لاكتمال هذه الكرامة التي ميزه بها " العقل والإداراك" ، ولم يجعلها تقوم بوظيفتها بالشكل المفترض ، فتقف جموع الباحثين والأطباء بعجز وبلاهة أمام بديع صنعه سبحانه ، لا نستطيع اكمال جزء !! انتقصه ليكون عبرة لنا ... رحلت أفكاري حيث لا يجدر بها فتوقفت عاجزة مقرة..حين استطرقت للروح " و "الموت" فالعجز يلف بشريتي الصغيرة ، وخالقي يزداد عظمة على عظمته وكبريائه ...نور لا ندرك كنهه ولا يدرك إدراكنا حتى عجزه!!!!!ـ
في اليوم التالي
وفي قسم الإدخال
كنت مع كل مريض أرسم قصة جديدة ، تبدأ بيننا وبينه ، عندنا وعنده ، إداركنا وإدراكه ، حمدنا لربنا وحمده....استشعر الخطاب الإلهي الذي يستلزم منا فيما أقله تهذيب لعقول كريمة من خالقها ، لتكرم نفسها بفكرها ، وقولها وفعلها وعقل شعورها وقلبها ... فتكتمل كرامتها فيما ارتقت به عن غيرهاـ
في أقل من ساعتين من اللقاءات المتتالية مع المرضى ..أحسست بالدمع يؤرق نظراتي وتفكيري .. فبحت بحمد ربي والثناء عليه ...لكن
لكن لم أوف الكثيرين حقهم
انتهت الإستراحة ودخل بقية الطلاب القاعة للمحاضرة...
فأدركت لحظتي بهذه الكلمات..
إن قائمة المهام تتسع يوما بعد يوم ..واليوم لا بد من إضافة الجديد لها ..لا لتكون تعداد ولكن تذكرة لأصحاب الرسالة السامية ..
المريض
والسوي
لا تنس شكر رب العزة قبل وبعد كل أمر
9-10-2008